فصل: تفسير الآيات (47- 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (45- 46):

{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)}
قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي؟ {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} لا خلف فيه، {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} حكمت على قوم بالنجاة وعلى قوم بالهلاك.
{قَالَ} الله عز وجل: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} قرأ الكسائي ويعقوب: {عَمِلَ} بكسر الميم وفتح اللام {غيرَ} بنصب الراء على الفعل، أي: عمل الشرك والتكذيب. وقرأ الآخرون بفتح الميم ورفع اللام وتنوينه، {غير} برفع الراء معناه: أن سؤالك إياي أن أنجيه عمل غير صالح، {فَلا تَسْأَلْن} يا نوح، {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.
قرأ أهل الحجاز والشام {فلا تسألنِّ} بفتح اللام وتشديد النون، ويكسرون النون غير ابن كثير فإنه يفتحها، وقرأ الآخرون بجزم اللام وكسر النون خفيفة، ويُثبت أبو جعفر وأبو عمرو وورش ويعقوب الياء في الوصل.
{إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
واختلفوا في هذا الابن؛ قال مجاهد والحسن: كان ولد حنث من غير نوح، ولم يعلم بذلك نوح، ولذلك قال: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقرأ الحسن {فخانتاهما} [التحريم- 10].
وقال أبو جعفر الباقر: كان ابن امرأته وكان يعلمه نوح ولذلك قال: {من أهلي} ولم يقل مني.
وقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والأكثرون: إنه كان ابن نوح عليه السلام من صلبه. وقال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط. وقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي: من أهل الدين لأنه كان مخالفا له في الدين، وقوله: {فخانتاهما} أي: في الدين والعمل الصالح لا في الفراش.
وقوله: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} يعني: أن تدعو بهلاك الكفار ثم تسأل نجاة كافر.

.تفسير الآيات (47- 48):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)}
{قَالَ} نوح {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ} إنزل من السفينة، {بِسَلامٍ مِنَّا} أي بأمن وسلامة منا، {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} البركة هي: ثبوت الخير، ومنه: بروك البعير. وقيل: البركة هاهنا هي: أن الله تعالى جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة، {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} أي: على ذرية أمم ممن كان معك في السفينة، يعني على قرون تجيء من بعدك، من ذرية من معك، من ولدك وهم المؤمنون، قال محمد بن كعب القرظي: دخل فيه كل مؤمن إلى قيام الساعة {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} هذا ابتداء، أي: أمم سنمتعهم في الدنيا، {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهم الكافرون وأهل الشقاوة.

.تفسير الآيات (49- 52):

{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)}
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} أخبار الغيب، {نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} من قبل نزول القرآن، {فَاصْبِرْ} على القيام بأمر الله وتبليغ الرسالة وما تلقى من أذى الكفار كما صبر نوح، {إِنَّ الْعَاقِبَةَ} آخر الأمر بالسعادة والنصرة {لِلْمُتَّقِينَ}.
قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ} أي: وأرسلنا إلى عاد، {أَخَاهُمْ هُودًا} في النسب لا في الدين، {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وحدوا الله {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ} ما أنتم في إشراككم إلا كاذبون.
{يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْه} أي: على تبليغ الرسالة، {أَجْرًا} جعلا {إِنْ أَجْرِيَ} ما ثوابي، {إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} خلقني، {أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} أي: آمنوا به، والاستغفار هاهنا بمعنى الإيمان، {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} من عبادة غيره ومن سالف ذنوبكم، {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} أي: يرسل المطر عليكم متتابعا، مرة بعد أخرى في أوقات الحاجة، {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} أي: شدة مع شدتكم. وذلك أن الله عز وجل حبس عنهم القطر ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم فلم يلدن، فقال لهم هود عليه السلام: إن آمنتم أرسل الله عليكم المطر، فتزدادون مالا ويعيد أرحام الأمهات إلى ما كانت، فيلدن فتزدادون قوة بالأموال والأولاد. وقيل: تزدادون قوة في الدين إلى قوة البدن. {وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} أي: لا تدبروا مشركين.

.تفسير الآيات (53- 56):

{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِي (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)}
{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} أي: ببرهان وحجة واضحة على ما تقول، {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} أي: بقولك، {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدقين.
{إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا} أي: أصابك {بِسُوءٍ} يعني: لست تتعاطى ما نتعاطاه من مخالفتنا وسب آلهتنا إلا أن بعض آلهتنا اعتراك، أي: أصابك بسوء بخبل وجنون، وذلك أنك سببت آلهتنا فانتقموا منك بالتخبيل لا نحمل أمرك إلا على هذا، {قال} لهم هود، {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} على نفسي، {وَاشْهَدُوا} يا قوم {أنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}.
{مِنْ دُونِهِ} يعني: الأوثان، {فَكِيدُونِي جَمِيعًا} فاحتالوا في مكركم وضري أنتم وأوثانكم، {ثُمَّ لا تُنْظِرُون} لا تؤخرون ولا تمهلون.
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ} أي: اعتمدت {عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} قال الضحاك: يحييها ويميتها.
قال الفراء: مالكها والقادر عليها.
وقال القتيبي: يقهرها، لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته.
وقيل: إنما خصَّ الناصية بالذكر لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة، فتقول: ناصية فلان بيد فلان، وكانوا إذا أسروا إنسانا وأرادوا إطلاقه والمَنَّ عليه جزُّوا ناصيته ليعتدوا بذلك فخرًا عليه، فخاطبهم الله بما يعرفون.
{إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يعني: إن ربي وإن كان قادرا عليهم فإنه لا يظلمهم ولا يعمل إلا بالإحسان والعدل، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بعصيانه. وقيل: معناه إن دين ربي إلى صراط مستقيم.
وقيل فيه إضمار، أي: إن ربي يحثكم ويحملكم على صراط مستقيم.

.تفسير الآيات (57- 60):

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)}
{فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: تتولوا، يعني: تعرضوا عمَّا دعوتكم إليه، {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أي: إن أعرضتم يهلككم الله عز وجل ويستبدل بكم قوما غيركم أطوع منكم، يوحدونه ويعبدونه، {وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} بتوليكم وإعراضكم، إنما تضرون أنفسكم. وقيل: لا تنقصونه شيئا إذا أهلككم لأن وجودكم وعدمكم عنده سواء، {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي: لكل شيء حافظ، يحفظني من أن تنالوني بسوء.
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} عذابنا، {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} وكانوا أربعة آلاف. {بِرَحْمَة} بنعمة {مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} وهو الريح التي أهلك بها عادًا، وقيل: العذاب الغليظ: عذاب يوم القيامة، أي: كما نجيناهم في الدنيا من العذاب كذلك نجيناهم في الآخرة.
{وَتِلْكَ عَادٌ} ردَّه إلى القبيلة، {جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ} يعني: هودًا وحده، ذكره بلفظ الجمع لأن مَنْ كذّب رسولا كان كمن كذَّب جميع الرسل، {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي: واتبع السفلة والسقاط أهل التكبر والعناد، والجبار: المتكبر، والعنيد: الذي لا يقبل الحق، يقال: عَنَدَ الرجل يعند عنودا إذا أبى أن يقبل الشيء وإن عرفه. قال أبو عبيدة العنيد والعاند والعنود والمعاند: المعارض لك بالخلاف.
{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي: أُرْدِفُوا لعنة تلحقهم وتنصرف معهم واللعنة: هي الإبعاد والطرد عن الرحمة، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: وفي يوم القيامة أيضا لعنوا كما لعنوا في الدنيا والآخرة، {أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} أي: بربهم، يقال: كفرته وكفرت به، كما يقال: شكرتُه وشكرتُ له ونصحتُه ونصحتُ له. {أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} قيل: بعدًا من رحمة الله. وقيل: هلاكًا. وللبعد معنيان: أحدهما ضد القرب، يقال منه: بَعُدَ يبعُدُ بُعْدًا، والآخر: بمعنى الهلاك، يقال منه: بَعِدَ يَبْعَدُ بَعْدًا وبُعْدًا.

.تفسير الآيات (61- 62):

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)}
قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} أي: أرسلناإلى ثمود أخاهم صالحا في النسب لا في الدين {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وحّدوا الله عز وجل، {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ} ابتدأ خلقَكُم، {مِنَ الأرْضِ} وذلك أنهم من آدم عليه السلام وآدم خُلق من الأرض، {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أي: جعلكم عُمَّارها وسُكَّانَها، وقال الضحاك: أطال عمركم فيها حتى كان الواحد منهم يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف سنة. وكذلك قوم عاد.
قال مجاهد: أعمركم من العُمرى، أي: جعلها لكم ما عشتم. وقال قتادة: أسكنكم فيها.
{فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ} من المؤمنين، {مُجِيبٌ} لدعائهم.
{قَالُوا} يعني ثمود، {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} القول، أي: كنا نرجو أن تكون سيدا فينا. وقيل: كنا نرجو أن تعود إلى ديننا، وذلك أنهم كانوا يرجون رجوعه إلى دين عشيرته، فلما أظهر دعاءهم إلى الله عز وجل وترك الأصنام زعموا أن رجاءهم انقطع عنه، فقالوا {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من قبل من الآلهة، {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} موقع للريبة والتهمة، يقال: أربته إرابة إذا فعلت به فعلا يوجب له الريبة.

.تفسير الآيات (63- 65):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)}
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} نبوة وحكمة، {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} أي: من يمنعني من عذاب الله، {إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} قال ابن عباس: معناه: غير بصارة في خسارتكم.
قال الحسين بن الفضل: لم يكن صالح عليه السلام في خسارة حتى قال: {فما تزيدونني غير تخسير}، وإنما المعنى: ما تزيدونني بما تقولون إلا نسبتي إياكم إلى الخسارة.
والتفسيق والتفجير في اللغة هو: النسبة إلى الفسق والفجور، وكذلك التخسير هو: النسبة إلى الخسران.
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} نصب على الحال والقطع، وذلك أن قومه طلبوا منه أن يخرج ناقة عشراء من هذه الصخرة، وأشاروا إلى صخرة، فدعا صالح عليه السلام فخرجت منها ناقة وولدت في الحال ولدا مثلها، فهذا معنى قوله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} من العشب والنبات فليست عليكم مؤنتها، {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} ولا تصيبوها بعقر، {فَيَأْخُذَكُمْ} إن قتلتموها، {عَذَابٌ قَرِيبٌ}.
{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ} صالح، {تَمَتَّعُوا} عيشوا، {فِي دَارِكُمْ} أي: في دياركم، {ثَلاثَة أَيَّامٍ} ثم تهلكون، {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي: غير كذب.
روي أنه قال لهم: يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام فتصبحون في اليوم الأول ووجوهكم مصفرة، وفي اليوم الثاني محمرة، وفي اليوم الثالث مسودة، فكان كما قال، وأتاهم العذاب اليوم الرابع.

.تفسير الآيات (66- 69):

{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)}
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} بنعمة منا، {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أي: من عذابه وهوانه. قرأ أبو جعفر ونافع والكسائي: {خزي يومئذ} و{عذاب يومئذ} بفتح الميم. وقرأ الباقون بالكسر. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}.
{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} كفروا، {الصَّيْحَة} وذلك أن جبريل عليه السلام صاح عليهم صيحة واحدة فهلكوا جميعا. وقيل: أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدورهم. وإنما قال: {وأخذ} الصيحة مؤنثة، لأن الصيحة بمعنى الصياح. {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} صرعى هلكى.
{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} يقيموا ويكونوا فيها {أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ} قرأ حمزة وحفص ويعقوب: {ثمود} غير منون، وكذلك في سورة الفرقان والعنكبوت والنجم، وافق أبو بكر في النجم، وقرأ الباقون بالتنوين، وقرأ الكسائي: {لثمود} بخفض الدال والتنوين، والباقون بنصب الدال، فمن جره فلأنه اسم مذكر، ومن لم يجره جعله اسما للقبيلة.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} أراد بالرسل الملائكة. واختلفوا في عددهم، فقال ابن عباس وعطاء: كانوا ثلاثة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل.
وقال الضحاك: كانوا تسعة.
وقال مقاتل: كانوا اثني عشر ملكا.
وقال محمد بن كعب: كان جبريل ومعه سبعة.
وقال السدي: كانوا أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الوضاء وجوههم.
{بِالْبُشْرَى} بالبشارة بإسحاق ويعقوب. وقيل: بإهلاك قوم لوط.
{قَالُوا سَلامًا} أي: سلَّموا سلاما، {قَالَ} إبراهيم {سَلام} أي: عليكم سلام: وقيل: هو رفع على الحكاية، كقوله تعالى: {وقولوا حطة} [البقرة 85 والأعراف 161]، وقرأ حمزة والكسائي {سِلْم} هاهنا وفي سورة الذاريات بكسر السين بلا ألف. قيل: هو بمعنى السلام. كما يقال: حِل وحَلال، وحِرم وحرام. وقيل: هو بمعنى الصلح، أي: نحن سلم أي صلح لكم غير حرب.
{فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} والحنيذ والمحنوذ: هو المشوي على الحجارة في خدّ من الأرض، وكان سمينا يسيل دسما، كما قال في موضع آخر: {فجاء بعجل سمين} [الذاريات- 26]: قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم البقر.